يتواصل تراكم الجثث في الشرق الأوسط· ويتوالى انطلاق صرخات الضحايا، وعويل المفجوعين وزعيق صفارات الإنذار· ذلك كله حوّل سيمفونية الشرق الأوسط إلى رقصة موت مرعبة لا أمل فيها ولا رجاء· ومرة أخرى ينجح اليأس في قهر الأمل؛ ومرة أخرى قامت التفاصيل الصغيرة بطرد الحلم الكبير·
وفي خلفية هذا المشهد، نرى صورة رئيس الولايات المتحدة وهو يرتحل غائباً في خط الأفق، حاملاً في حقيبة على ظهره خريطة الطريق التي كان من المفترض أن تُخرجنا من جحيمنا إلى نور السلام·
أنا لا ألومه، بل أتوسل إليه وأسأله أن يرجع· وأشعر هنا بواجب يُلزمني بشرح الحقائق الأساسية، بحيث تكون الأمور مختلفة عندما ترجع الولايات المتحدة·
من الأخطاء الشائعة لكن الفادحة أن يتم تقليص النزاع بين الفلسطينيين والاسرائيليين ليكون أشبه بلعبة بين سائقين أصابهما الضجر في مكان ما من صحراء الشرق الأوسط· بل إنها حرب بين أمتين شريدتين لاجئتين حلمتا ذات يوم بالأرض العظيمة التي تدعيها كل منهما لنفسها، فأفاقتا على اكتشاف مريع لتجدا أن هناك طرفاً آخر غيرهما، وهكذا تعرض الحلم للخطر ومضى الواقع اليومي في تحوله إلى كابوس·
الآن تمثل كل واحدة من هاتين الأمتين حضارة تقف وراءها· فهناك الحضارة العربية الاسلامية التي تمتد على نصف الكرة الأرضية، والتي يبدو أنها محرّضة ضد الحضارة الأخرى المسيحية اليهودية التي تشكل نصف الكرة الأرضية الآخر·
لكن المشهد لا يبدو كذلك للناظر من هنا، فمن هنا سيرى ما يلي: الآن وبعد مضي سنوات، ما زال الآخرون ماضين في قتلنا دونما رحمة، وما زلنا نحن نواصل إذلالهم دون أي احترام أو اعتبار لهم· وعندما يقتلوننا فإنهم في نظرنا يواصلون بذلك تجربة المحرقة· ولا يمكن لنا أن نحرر أنفسنا من هذا الشعور· فهناك الكثيرون من الاسرائيليين الذين يعتبرون، في أعمق أعماق وعيهم، أن ياسر عرفات هو أدولف هتلر نفسه الذي لم يحلق لحيته، ويرون أن منفذي عمليات التفجير الانتحارية نازيون، ويخلعون على من يؤيدهم صفات الوحشية والهمجية·
وعندما نرد نحن عليهم بتعمد قتلهم فإننا نحيي شبح الإذلال الذي مارسه الاستعمار، ونحيي أيضاً الظلم الذي مارسه العالم الأول، وهو الغرب المسيحي المتغطرس في مواجهته مع العالم الثالث: البشرة البيضاء في مواجهة البشرة السمراء، والأغنياء في مواجهة الفقراء والتكنولوجيا في مواجهة البدائية·
وفي سياق هذا الحوار الدموي، وعلى خلفية رقصات الموت التي تقترن بحقيقة المحرقة وحقيقة الاستعمار، يكون من الصعب استحداث تفاهمات مستقرة، وكذلك مد جسور الشفقة والصفح والغفران· بل يكاد يكون من المستحيل أن نتحدث عن واقع تحقيق الفائدة لجميع الأطراف بعد سنوات من الخسائر·
إننا نحاول ونخفق، ونحن نفعل هذا باللغة العربية والعبرية، فنجد أننا لا نستطيع فعل ذلك لوحدنا لأن هاتين اللغتين العريقتين المغرقتين في القِدم لا تكفيان· ولذلك نشأت حاجتنا إلى اتخاذ موقف الوسط في اللغة ما بين العالم الغربي والعالم الذي تعلم كيف يحل نزاعاته دون الانخراط في الحرب (حتى لو لم يكن دوماً في انصياع للدرس والعبرة)، وهو العالم الذي قد يحمل في يده مفتاح باب السلام·
لا بد لنا ولا مفر من أن نعطي الحرية مجالاً كي تشرق وتصعد من القاع بين الفلسطينيين، الذين استوعبوا قيمها ومناهجها منا في غضون السنوات الـ35 الماضية وهي عمر الاحتلال·(ومن الممكن أن يحدث ذلك بزمن طويل قبل أن يكون ممكناً فرض الديمقراطية الأميركية في العراق فرضاً من الأعلى على الأدنى، والعراق هو البلد الذي ليس مستعداً بعد ولا مُعَدّاً لهذه الديمقراطية بعد أن مضت أجيال من الديكتاتورية والطغيان والحكم الاستبدادي)· ولا بد هنا من إخماد رياح الأحادية والانفراد التخويفية التي تهب عبر ممرات وأروقة واشنطن لتحث على التوصل إلى غاية جوهرية أساسية دون اتباع عملية، وعلى فرض حلول بألوان أساسية بسيطة تفتقر إلى القدرة على إظهار الفوارق الدقيقة وظلال الاختلاف الباهتة التي تتميز بها تعقيدات منطقة الشرق الأوسط·
وهنا لا بد أيضاً ولا مفر من إسكات صوت الطبول التي تعزف لحرب دينية صليبية· إن كان المراد بذلك حرباً على الإرهاب، فنعم· وإن كان نضالاً في سبيل مثال الديمقراطية الأعلى وقيم التسامح المثالية، فأيضاً نعم، ولا شك في قبولنا لهذا· لكن، إن كان مرادكم من التطبيل حرباً دينية، وحملة صليبية جديدة، فإننا نقول لكم شكراً، نحن لا نريدها، لأننا لدينا سلفاً ما يزيد عن حاجتنا من ذلك في الشرق الأوسط·
عندما يرجع الرئيس بوش إلى المشهد، فلا بد من أنه سيرجع وحيداً، ومن دون حقائب رجال الدين الأصوليين ومخلصي ومنقذي العالم المزعومين، وأعني بذلك المبشرين المسيحيين الذين يدفعون البقية الباقية منا نحو الحرب الفاصلة، حرب أرماجدون تلك، فليس من أجل هذا عاد شعبي إلى خشبة مسرح التاريخ· ولا بد لكم يا هؤلاء من أن تتبعوا مقتضيات نصائحكم التي تطلقونها، فأنتم دأبتم لسنوات كثيرة على إلقاء المواعظ علينا،وقلتم لنا ابتلعوا كبرياءكم وتصالحوا